•
June 27, 2025
كيف نُحيي إرث الراحلين في سردنا؟
كتابة
مقالات أخرى
مضى على رحيل جدتي لأمي أكثر من سبعة أعوام، وبرغم ذكرياتها التي لاتزال حيّة في وجداني، إلا أن حضورها بات يخفت شيئًا فشيئًا ويصبح أقل كثافة في نفسي مع مرور الوقت. علاوة على ذلك، لم يعد استحضار ذكرياتها متدفقًا كالسابق، بل صار يتطلب إلى جهدٍ أكبر لاستدعائها من ذاكرتي. هذا التلاشي البطيء والمتدرج للذكريات مؤلم، وبرغم قسوته، إلا أنه يبقى جزءًا جوهريًا من صميم تجربتنا البشرية، فلا مناص من حتمية النسيان.
أتأمل في هذا السياق سرد الكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس عن جدّه الراحل في سيرته الذاتية "تقرير إلى غريكو" حين قال: "كان هذا الجد أول من جعلني أتمنى أن لا أموت - لكي لا يموت الميت الذي أحمله في أعماقي. ومنذ ذلك الحين غرق أعزاء راحلون كثيرون، ولكن ليس في القبر، بل في ذاكرتي. وأنا الآن أعرف أنهم سيعيشون طالما أنا حيّ". ولكن كيف يعيش الراحلون فينا رغم ذبول الذكريات وتراجعها مع تقدم الزمن؟ يرى مايكل وايت (أحد مؤسسي العلاج السردي) أن " الموتى لا يغيبون حين نمنحهم مكانًا ودورًا حيّا في سردنا"
استعار وايت فكرة جوهرية تُعرف بـ"إعادة التذكّر" (re-membering) من عالمة الأنثروبولوجيا باربرا مايرهوف التي قدمت إسهامًا رائدًا في موضوع الذاكرة وعلاقتها بالهوية. فمن خلال أبحاثها الاثنوغرافية ولاسيما خلال عملها مع فئة كبار السن، لاحظت مايرهوف أن الذاكرة ليست مجرد أرشيف منعزل للماضي، كما أن التذكر -كفعلٍ- لا يقتصر على الاستدعاء العشوائي للذكريات فحسب، بل يتجاوز ذلك ليكون ممارسة واعية وهادفة، ووسيلة فاعلة لتعزيز الهوية وبناء سرديات أكثر تماسكًا عن الذات. تتجسد هذه الممارسة من خلال منح الراحلين مكانة فاعلة في حاضرنا، وتحويل ذكراهم إلى مواردٍ حيّة وإرثٍ عاطفي يمدّنا بالقوة والحكمة والإلهام المستمر ودمجها في سردنا الشخصي.
استنادًا لمفهوم إعادة التذكر، طوّر وايت استعارة "قول مرحبا مرة أخرى" (saying hullo again) كأداة علاجيّة لمواجهة ألم الفقد متحديًّا السرديات المهيمنة حول الشفاء التي تفرض فكرة التخلّي أو تجاوز الماضي كشرطٍ أساسي للتعافي والنمو. يقدّم وايت في هذا السياق رؤية مغايرة حول الفقد مقترحًا أن الموت ليس انقطاعًا وجوديًا بالمطلق مع الراحلين بل تحولًا جوهريًا في طبيعة العلاقة وشكلها.
يعيد هذا النهج تعريف الموت من "فقد أبدي" إلى "حضور رمزي مستمر"، مقدمًا إطارًا معرفيًا جديدًا يتجاوز الثنائيات التقليدية بين الحضور والغياب الكلي. يؤكد وايت: "عندما نحيي روابطنا مع الراحلين من خلال ممارسات إعادة التذكّر، فإننا لا نستسلم لوطأة الحنين إلى الماضي، بل نخلق حوارًا حيًا مع إرثهم الروحي والمعنوي لإعادة تشكيل حاضرنا، فالموت ينهي الحياة لكنه لا ينهي العلاقة ". تكمن أهمية هذا المنظور في كونه يحرّرنا من ثنائية "الاختيار القسري" بين التمسك بالماضي أو تجاوزه عبر طرح بديل ثالث يتمثل في تحويل العلاقات والروابط التاريخية مع الأحباء الذين رحلوا إلى مصدر للإلهام والمعنى ومورد لتشكيل هويتنا.
يمكن تطبيق إعادة التذكر وتحويلها إلى ممارسة عملية عبر مسارين. يتمثل المسار الأول عبر اكتشاف أثر الشخص الراحل في حياتك (تأثيره عليك). يركز المسار الأول على استخلاص الإرث المعنوي الذي تركه لك، ودوره في تشكيل هويتك. ابدأ مثلاً بتحديد الدروس والقيم التي نقلها إليك، والمواقف التي شكلت شخصيتك والمهارات التي طورتها بفضله. يمكنك أن تستعين بأسئلة مثل:
-ما أهم شيء تعلمته منه؟
-كيف غيرت هذه العلاقة نظرتك تجاه نفسك؟
-كيف كان يتصرف وقت الأزمات، وما الذي تعلّمت منه؟
-ما الجوانب التي بفضله استطعت اكتشافها وتطويرها في شخصيتك؟
-ما الموقف الذي شاركته معه والذي غير من مسار تفكيرك؟
- كيف كان يراك ويصفك؟
يركز المسار الثاني على اكتشاف تأثيرك على الشخص الراحل (تأثيرك عليه). يُضيء هذا المسار دورك الفاعل في حياة الشخصية الراحلة، و قيمتك في مسيرته وكيف ساهمت في تشكيل عوالمه أثناء حياته. يمنحك هذا المسار فرصة لإعادة النظر في العلاقة من زاوية جديدة، لترى الأثر المتبادل بينكما. يمكنك الاسترشاد بالأسئلة الاستكشافية التالية:
-في أي لحظات شعرت أن وجودك أحدث فارقًا في حياته؟
-ماذا كنت تقدّم له (دعمًا، فرحًا، إلهامًا)؟
-ما القيم والمهارات التي تعلمها منك؟ هل هناك موقف تشعر أنه ترك أثرًا خاصًا فيه؟
-كيف كانوا يصفك أو يتحدث عنك للآخرين؟ ماذا كان يقدّر فيك على وجه التحديد؟
-إذا كان هنا اليوم، ما الذي سيخبرك عن دورك في مسيرة حياته؟ كيف كان سيعبر عن امتنانه لك؟
-ما الذكريات التي تعتقد أنها ظلت عالقة في ذاكرته بفضلك؟
References:
1. Kazantzakis, N. (2012). Report to Greco. New York City : Simon & Schuster
2.Russell, S., & Carey, M. (2002). Re-membering: responding to commonly asked questions. International Journal of Narrative Therapy and Community Work, 45-61.
3. White, M. (1988). Saying hullo again: The incorporation of the lost relationship in the resolution of grief. Dulwich Centre Publications, 17-29