•
March 10, 2025
كيف قادني التأمل في روتيني إلى تغيير مساري المهني؟
كتابة
مقالات أخرى
بعد مضي ١٣ عامًا على تخرجي من جامعة السلطان قابوس، قررت العودة مجددًا إلى مقاعد الدراسة أثناء عملي في البنك والتخصص في علم النفس. نتج عن هذا القرار انعطافة حاسمة في مساري المهني، فبعد مرور ستة أعوام على القرار، استطعت الانتقال إلى الضفة الأخرى وتحقيق حلمي في العمل كأخصائية ومعالجة نفسية.
البدايات 🚀
جاء قبولي للالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في عام ٢٠٠٨م. لم تكن دوافع اختياري واضحة تمامًا، ولكن أتذكر مدى انسياقي للمعايير الشائعة حينها عن النجاح: "ادخلي يا إيمان الكلية اللي بتضمن لك وظيفة بعدين”
تخرّجت في مطلع عام ٢٠١٣م بشهادة بكالوريوس في تخصص إدارة الأعمال، وحصلت على أول وظيفة في العام ذاته. وبعد مرور عامين، انتقلت للعمل في القطاع المصرفي.
عالم المصارف حيوي وديناميكي وهذا ما ساعدني على اكتساب العديد من المهارات وصقل شخصيتي المهنيّة، ولكن مع مرور الأعوام أصبحت المهام اليومية شاقة، وتطلبت إلى جهدِ عالٍ لإنجازها. أربكني تساؤلي الذي كان ملحًا حينها: "هل أنا حقًا في المكان الصحيح"؟
فبرغم التقدم المهني والامتيازات المصاحبة لوظيفتي، إلا أنني لم أشعر بالمواءمة بين ذاتي وبين ما أنجزه كل يوم في العمل. شعرت في ذلك الوقت أنني في مفارقة عاجزة عن حلّها!
تحت المجهر 🔍
اعتقدت في بداية الأمر أن المشكلة ربما تكمن في بيئة العمل، أو ربما في طبيعة المهام ذاتها، أو بسبب ضغط العمل المستمر، أو ربما بسبب الإدارة والخ. بحثت عن كل الأسباب الخارجية التي عززت من شعوري بالوجود في “المكان الخاطئ". ولكن ظلّ هذا الشعور ملازمًا حتى عند الانتقال والعمل في مؤسسات أخرى.
لذلك بدأت بتوجيه انتباهي إلى الداخل، فبحثت في جوانب ضعفي وطرحت بعض التساؤلات على نفسي مثل: ما المهارات التي تنقصني لتحسين الأداء؟ أين هي جوانب القصور من ناحيتي؟ ماذا أحتاج لأتمكن من الانسجام والتوافق مع عملي؟
تحدثت أيضًا مع المسؤولين وبعض الزملاء لتوجيهي وإرشادي. بذلت كل جهدي لتحسين أدائي المهني والتخفيف من عبء هذا الشعور المربك.
ولكن رغم كل محاولاتي للتكيّف، إلا أنني كنت مازلت عالقة. لازمني هذا الشعور المبهم الذي كان يهمس لي: "هناك خطأ ما" لكنني لم أستطع تحديد ماهيته بالضبط.
منظور مختلف 🔎
مع مرور الوقت، بدأت بتوجيه انتباهي إلى الجانب الآخر من تجربتي. فعوضًا عن البحث عما ينقصني ويؤرقني في العمل، انطلقت للبحث عن قدراتي وما يتوافق مع إمكاناتي. هذا التحوّل في طريقة التفكير منحني فهمًا مختلفًا حول مأزقي المهني.
ولتحقيق ذلك، تأملت في الخبرات اليومية التي تجلب لي الرضا والدافعيّة والثقة في العمل، فمثلا تساءلت: ما هي المهام التي أنجزها بدافعيّة عالية؟ ما هي السياقات التي من خلالها تتفعّل جوانب قوّتي؟ ما المهام التي انغمس في تنفيذها دون الإحساس بالوقت؟ ما شكل التفاعل اليومي الذي يمنحني الرضا والقيمة والمعنى في بيئة العمل؟
و لتوسيع إدراكي، وجهت انتباهي خارج سياق العمل أيضًا. بدأت بمراقبة نشاطاتي وكيف أتفاعل معها خلال اليوم. يشير عالم النفس ميهاي جيكسينتميمهاي في كتابه كيف تجد التدفق الذهني أنّ ما نفعله خلال اليوم يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع رئيسية من النشاطات:
النشاطات الإنتاجية: العمل، الدراسة، التخطيط، إنجاز مهمة ما
نشاطات الاعتناء (إلزامية): تناول الطعام، والنوم والتنقل
النشاطات الترفيهية: الهوايات، الرياضة، وسائل الإعلام، الاهتمامات، الراحة
من خلال التأمل في روتيني اليومي، اكتشفت أن اهتمامي يتمحور بشكل كبير حول فهم السلوك الإنساني ورغبتي نحو دعم الآخرين، ومع مرور الوقت وجدت أن جوانب قوّتي تبرز بوضوح في السياقات التالية:
التعاطف والسعي في تخفيف معاناة الآخرين
الاستماع الفعّال ومحاولة تقديم أفكار وحلول لمشكلات من حولي
الرغبة المستمرة في تقديم الدعم المعنوي للآخرين
إضافة لذلك، تبيّن لي أن نشاطاتي الأخرى (الفكرية، الإنتاجية، الترفيهية) تتمحور حول قضايا الإنسان النفسية مثل:
الاستماع إلى البودكاست ومشاهدة وثائقيات عن موضوعات نفسية
قراءة كتب ومقالات في علم النفس
حضور دورات وورش عمل متصلة بالتنمية الشخصيّة
تخيّل نفسي في مهنة تمكنني من إحداث تغيير إيجابي في حياة الآخرين
دراستي للتدريب واللايف-كوتش
اللحظة الفارقة 🌟
الانتقال من التفكير في كيفية معالجة الخلل والنقص إلى التفكير في كيفية تسخير جوانب قوّتي وقدراتي في المكان الصحيح أيقظ في داخلي شرارة لم تنطفئ. تُظهر الأبحاث والدراسات في علم النفس الإيجابي أنّ النهج القائم على القوّة أي من خلال معرفة يدعم الأفراد على استكشاف مسارات جديدة واتخاذ خيارات مهنيّة أكثر استنارة وحكمة، تتوافق مع قيمهم الشخصية ومواردهم الداخلية.
على الرغم من خوفي من المجهول، إلا أنه توّلدت لدي رغبة وإرادة حقيقية للبدء في مجال جديد وإعادة بناء هويتي المهنية في تخصص علم النفس.
لكلِ قرار تداعياته وثمنه على حياتنا، لم يكن قرار الانتقال سهلًا، ولكن تكمن الإرادة والعزم في قدرتنا على تحمل مسؤولية خياراتنا وما تحمله من فرص وتحديات وتضحيات.
اليوم، وبعد ومضي ستة أعوام على رحلتي، أشعر بالرضا والامتنان. على الرغم من ممارستي للمهنة التي أحبها، إلا أنني أواجه بعض التحديات والعقبات وهذا أمر طبيعي، فحياتي المهنيّة ليست مثالية ولن تكون، لكن الفارق الجوهري أنها الآن تتوافق مع قيمي و قدراتي وطاقاتي وهذا ما كنت أسعى للوصول إليه.
دعوة للتأمل 💡
بصرف النظر عمّا تريده وما تنوي فعله وتحقيقه، اسمح لحياتك أن تتحدث إليك، وأن تكشف لك الحقائق التي غابت عنك حول نفسك.
أن تسمح للحياة بأن تتحدث عليك هو تعبير مجازي بلا شك، ولكن الفكرة هي بدلا من فرض توقعاتك ورغباتك على الحياة، لتصبح الحياة رفيقًا ومرشدًا لك في رحلتك وليس مجرد مسرح لتحقيق أهدافك.
ماذا تخبرك حياتك من خلال: تجاربك؟ نشاطاتك اليومية؟ مسرّاتك الصغيرة؟ أهدافك؟ علاقاتك؟ قيمك الشخصية؟ نجاحاتك؟ اخفاقاتك؟ قراراتك التي تتخذها؟ هل هناك نمط متكرر بين جميع السياقات؟ تأمّل.